سورة مريم - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (مريم)


        


قوله تعالى: {إِنه كان مخلصاً} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والمفضل عن عاصم: {مُخْلِصاً} بكسر اللام. وقرأ حمزة، والكسائى، وحفص عن عاصم بفتح اللام. قال الزجاج: المُخْلِص، بكسر اللام: الذي وحَّد الله، وجعل نفسه خالصة في طاعة الله غيرَ دَنِسة، والمُخْلَص، بفتح اللام: الذي أخلصه الله، وجعله مختاراً خالصاً من الدَّنَس.
قوله تعالى: {وكان رسولاً} قال ابن الأنباري: إِنما أعاد {كان} لتفخيم شأن النبيّ المذكور.
قوله تعالى: {وناديناه من جانب الطُّور} أي: من ناحية الطُّور، وهو جبل بين مصر ومدين اسمه زَبِير. قال ابن الأنباري: إِنما خاطب الله العرب بما يستعملون في لغتهم، ومن كلامهم: عن يمين القِبلة وشمالها، يعنون: مما يلي يمين المستقبِل لها وشماله، فنقلوا الوصف إِلى ذلك اتِّساعاً عند انكشاف المعنى، لأن الوادي لا يَدَ لَهُ فيكون له يمين. وقال المفسرون: جاء النداء عن يمين موسى، فلهذا قال: {الأيمنِ}، ولم يُرِد به يمين الجبل.
قوله تعالى: {وقرَّبناه نجيّاً} قال ابن الأنباري: معناه: مناجياً، فعبَّر فَعيل عن مُفَاعِل، كما قالوا: فلان خليطي وعشيري: يعنون: مخالطي ومُعاشري. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {وقرَّبناه} قال: حتى سمع صريف القلم حين كتب له في الألواح.
قوله تعالى: {ووهبنا له من رحمتنا} أي: من نعمتنا عليه إِذ أجبنا دعاءه حين سأل أن نجعل معه أخاه وزيراً له.


قوله تعالى: {إِنه كان صادق الوعد} هذا عامّ فيما بينه وبين الله، وفيما بينه وبين الناس. وقال مجاهد: لم يَعِد ربَّه بوعدٍ قطُّ إِلا وفى له به.
فإن قيل: كيف خُصَّ بصدق الوعد إِسماعيل، وليس في الأنبياء من ليس كذلك؟
فالجواب: أن إِسماعيل عانى في الوفاء بالوعد ما لم يعانه غيره من الأنبياء، فأُثني عليه بذلك. وذكر المفسرون: أنه كان بينه وبين رجل ميعاد، فأقام ينتظره مدة فيها لهم ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه أقام حَوْلاً، قاله ابن عباس.
والثاني: اثنين وعشرين يوماً، قاله الرقاشي.
والثالث: ثلاثة أيام، قاله مقاتل.
قوله تعالى: {وكان رسولاً} إِلى قومه، وهم جُرْهُم. {وكان يأمر أهله} قال مقاتل: يعني: قومه. وقال الزجاج: أهله: جميعُ أُمَّته. فأما الصلاة والزكاة، فهما العبادتان المعروفتان.
قوله تعالى: {ورفعناه مكاناً عَلِيّاً} فيه أربعة أقوال.
أحدها: أنه في السماء الرابعة، روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث مالك بن صعصعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث المعراج: أنه رأى إِدريس في السماء الرابعة، وبهذا قال أبو سعيد الخدريّ، ومجاهد، وأبو العالية.
والثاني: أنه في السماء السادسة، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الضحاك.
والثالث: أنه في الجنة، قاله زيد بن أسلم، وهذا يرجع إِلى الأول، لأنه قد روي أن الجنة في السماء الرابعة.
والرابع: أنه في السماء السابعة، حكاه أبو سليمان الدمشقي.
وفي سبب صعوده إِلى السماء ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه كان يصعد له من العمل مِثْلُ ما يصعد لجميع بني آدم، فأحبَّه مَلَك الموت، فاستأذن اللهَ في خُلَّته، فأذن له، فهبط إِليه في صورة آدمي، وكان يصحبه فلما عرفه، قال إِنِّي أسألك حاجة، قال: ما هي؟ قال: تذيقني الموت، فلعلِّي أعلم ما شدَّته فأكون له أشدّ استعداداً؛ فأوحى الله إِليه أن اقبض روحه ساعةً ثم أَرْسِله، ففعل، ثم قال: كيف رأيتَ؟ قال: كان أشدَّ مما بلغني عنه، وإِني أُحب أن تريَني النار، قال: فحمله، فأراه إِيّاها؛ قال: إِني أُحِبُّ أن تريَني الجنة، فأراه إِياها، فلما دخلها وطاف فيها، قال له ملك الموت: اخرج، فقال: والله لا أخرج حتى يكون الله تعالى يُخرجني؛ فبعث الله مَلَكاً فحكم بينهما، فقال: ما تقول يا مَلَك الموت؟ فقصَّ عليه ما جرى؛ فقال: ما تقول يا إِدريس؟ قال: إِن الله تعالى قال: {كُلُّ نَفْس ذائقة الموت} [آل عمران: 185]، وقد ذُقْتُه، وقال: {وإِن منكم إِلا واردها} [مريم: 71]، وقد وردتُها، وقال لأهل الجنة: {وما هم منها بمُخْرَجِين} [الحجر: 48]، فوالله لا أخرج حتى يكون الله يُخرجني؛ فسمع هاتفاً من فوقه يقول: باذني دخل، وبأمري فعل، فخلِّ سبيله؛ هذا معنى ما رواه زيد بن أسلم مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن سأل سائل فقال: من أين لإِدريس هذه الآيات، وهي في كتابنا؟! فقد ذكر ابن الأنباري عن بعض العلماء، قال: كان الله تعالى قد أعلم إِدريس بما ذكر في القرآن من وجوب الورود، وامتناع الخروج من الجنة، وغير ذلك، فقال ما قاله بعلم.
والثاني: أن ملَكاً من الملائكة استأذن ربه أن يهبط إِلى إِدريس، فأذن له، فلما عرفه إِدريس، قال: هل بينك وبين ملك الموت قرابة؟ قال: ذاك أخي من الملائكة، قال: هل تستطيع أن تنفعني عند ملك الموت؟ قال سأكلِّمه فيك، فيرفق بك، اركب ببن جناحيّ، فركب إِدريس، فصعد به إِلى السماء، فلقي ملك الموت، فقال: إِن لي إِليك حاجة، قال: أعلم ما حاجتك، تكلِّمني في إِدريس وقد محي اسمه من الصحيفة ولم يبق من أَجَله إِلا نصف طرفة عين؟! فمات إِدريس بين جناحي الملَك، رواه عكرمة عن ابن عباس. وقال أبو صالح عن ابن عباس: فقبض ملك الموت روح إِدريس في السماء السادسة.
والثالث: أن إِدريس مشى يوماً في الشمس، فأصابه وهجها، فقال: اللهم خفِّف ثقلها عمَّن يحملها، يعني به الملك الموكَّل بالشمس، فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس وحرِّها مالا يعرف، فسأل الله عز وجل عن ذلك، فقال: إِن عبدي إِدريس سألني أن أُخفِّف عنكَ حِملها وحرَّها، فأجبْتُه، فقال: يا رب اجمع بيني وبينه، واجعل بيننا خُلَّة، فأَذِن له، فأتاه، فكان مما قال له إِدريس: اشفع لي إِلى ملك الموت ليؤخِّر أجَلي، فقال: إِن الله لا يؤخِّر نفساً إِذا جاء أَجَلُها، ولكن أُكلِّمه فيك، فما كان مستطيعاً أن يفعل بأحد من بني آدم فعل بك، ثم حمله الملك على جناحه، فرفعه إِلى السماء، فوضعه عند مطلع الشمس، ثم أتى ملكَ الموت فقال: إِن لي إِليك حاجة صديق لي من بني آدم تشفَّعَ بي إِليك لتؤخِّر أجَلَه، قال: ليس ذاك إِليَّ، ولكن إِن أحببتَ أعلمتُه متى يموت، فنظر في ديوانه، فقال: إِنك كلمتني في إِنسان ما أراه يموت أبداً، ولا أجده يموت إِلا عند مطلع الشمس، فقال: إِني أتيتك وتركته هناك، قال: انطلق، فما أراك تجده إِلا ميتاً، فوالله ما بقي من أجله شيء، فرجع الملك فرآه ميتاً. وهذا المعنى مروي عن ابن عباس وكعب في آخرين. فهذا القول والذي قبله يدلاّن على أنه ميت، والقول الأول يدل على أنه حيّ.


قوله تعالى: {أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين} يعني الذين ذكرهم من الأنبياء في هذه السورة {من ذُرِّيَّة آدم} يعني إِدريس {وممن حَمَلْنا مع نوح} يعني إِبراهيم، لأنه من ولد سام بن نوح {ومن ذرية إِبراهيم} يريد: إِسماعيل وإِسحاق ويعقوب {وإِسرائيل} يعني: ومن ذرية إِسرائيل، وهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى.
قوله تعالى: {وممن هَدَينا} أي: هؤلاء كانوا ممن أرشَدْنا، {واجتَبَيْنَا} أي: واصطَفَيْنا.
قوله تعالى: {خرُّوا سُجَّداً} قال الزجاج: {سُجَّداً} حال مقدَّرة، المعنى: خرُّوا مقدِّرين السجود، لأن الإِنسان في حال خروره لا يكون ساجداً، ف {سُجَّداً} منصوب على الحال، وهو جمع ساجد {وبُكيّاً} معطوف عليه، وهو: جمع باكٍ، فقد بيَّن الله تعالى أن الأنبياء كانوا إِذا سمعوا آيات الله سجدوا وبَكَوْا من خشية الله.
قوله تعالى: {فخلف من بعدهم خَلْفٌ} قد شرحناه في [الأعراف: 169]. وفي المراد بهذا الخَلْف ثلاثة أقوال.
أحدها: أنهم اليهود، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثاني: اليهود والنصارى، قاله السدي.
والثالث: أنهم من هذه الأُمَّة، يأتون عند ذهاب صالحي أُمة محمد صلى الله عليه وسلم يتبارَوْن بالزنا، ينزو بعضهم على بعض في الأزقّة زناة، قاله مجاهد، وقتادة.
قوله تعالى: {أضاعوا الصلاة} وقرأ ابن مسعود، وأبو رزين العقيلي، والحسن البصري: {الصلوات} على الجمع.
وفي المراد باضاعتهم إِياها قولان:
أحدهما: أنهم أخَّروها عن وقتها، قاله ابن مسعود، والنخعي، وعمر بن عبد العزيز، والقاسم بن مخيمرة.
والثاني: تركوها، قاله القرظي، واختاره الزجاج.
قوله تعالى: {واتَّبَعوا الشهوات} قال أبو سليمان الدمشقى: وذلك مثل استماع الغناء، وشرب الخمر، والزنا، واللهو، وما شاكل ذلك مما يقطع عن أداء فرائض الله عز وجل.
قوله تعالى: {فسوف يلقون غيّاً} ليس معنى هذا اللقاء مجرد الرؤية، وإِنما المراد به الاجتماع والملابسة مع الرؤية. وفي المراد بهذا الغيّ ستة أقوال.
أحدها: أنه وادٍ في جهنم، روراه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه قال كعب.
والثاني: أنه نهر في جهنم، قاله ابن مسعود.
والثالث: أنه الخسران، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والرابع: أنه العذاب، قاله مجاهد.
والخامس: أنه الشرُّ، قاله ابن زيد، وابن السائب.
والسادس: أن المعنى: فسوف يلقون مجازاة الغي، كقوله: {يلقَ أثاماً} [الفرقان: 68] أي: مجازاة الآثام، قاله الزجاج.
قوله تعالى: {إِلا من تاب وآمن} فيه قولان:
أحدهما: تاب من الشرك، وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، قاله مقاتل.
والثاني: تاب من التقصير في الصلاة، وآمن من اليهود والنصارى.
قوله تعالى: {جناتِ عدن} وقرأ أبو رزين العقيلي، والضحاك، وابن يعمر، وابن أبي عبلة: {جناتُ} برفع التاء. وقرأ الحسن البصري، والشعبي، وابن السميفع: {جنةُ عدن} على التوحيد مع رفع التاء.
وقرأ أبو مجلز، وأبو المتوكل الناجي: {جنةَ عدن} على التوحيد مع نصب التاء. وقوله: {التي وعد الرحمنُ عباده بالغيب} أي: وعدهم بها، ولم يَروْها، فهي غائبة عنهم.
قوله تعالى: {إِنه كان وعده مأتيّاً} فيه قولان:
أحدهما: آتياً، قال ابن قتيبة: وهو مفعول في معنى فاعل، وهو قليل أن يأتي الفاعل على لفظ المفعول به. وقال الفراء: إِنما لم يقل: آتياً، لأن كل ما أتاك، فأنت تأتيه؛ ألا ترى أنك تقول: أتيت على خمسين سنة، وأتت عليَّ خمسون سنة؟.
والثاني: مبلوغاً إِليه، قاله ابن الأنباري. وقال ابن جريج: {وعده} هاهنا: موعوده، وهو الجنة، و{مأتيّاً}: يأتيه أولياؤه.
قوله تعالى: {لا يسمعون فيها لغواً} فيه قولان:
أحدهما: أنه التخالف عند شرب الخمر، قاله مقاتل.
والثاني: ما يلغى من الكلام ويؤثَم فيه، قاله الزجاج. وقال ابن الأنباري: اللغو في العربية: الفاسد المطَّرَح.
قوله تعالى: {إِلا سلاماً} قال أبو عبيدة: السلام ليس من اللغو، والعرب تستثني الشيء بعد الشيء وليس منه، وذلك أنها تضمر فيه، فالمعنى: إِلا أنهم يسمعون فيها سلاماً. وقال ابن الأنباري: استثنى السلام من غير جنسه، وفي ذلك توكيد للمعنى المقصود، لأنهم إِذا لم يسمعوا من اللغوا إِلا السلام، فليس يسمعون لغواً البتَّة، وكذلك قوله: {فإنهم عدوٌّ لي إِلا ربَّ العالمين} [الشعراء: 77]، إِذا لم يخرج من عداوتهم لي غير رب العالمين، فكلُّهم عدو.
وفي معنى هذا السلام قولان:
أحدهما: أنه تسليم الملائكة عليهم، قاله مقاتل.
والثاني: أنهم لا يسمعون إِلا ما يسلِّمهم، ولا يسمعون ما يؤثمهم، قاله الزجاج.
قوله تعالى: {ولهم رزقهم فيها بُكْرة وعَشِيّاً} قال المفسرون: ليس في الجنة بُكْرة ولا عشيَّة، ولكنَّهم يُؤتَوْن برزقهم على مقدار ما كانوا يعرفون في الغداة والعشي. قال الحسن: كانت العرب لا تعرف شيئاً من العيش أفضل من الغداء والعشاء، فذكر الله لهم ذلك. وقال قتادة: كانت العرب إِذا أصاب أحدُهم الغداءَ والعشاء أُعجب به، فأخبر الله أن لهم في الجنة رزقهم بكرة وعشيّاً على قدر ذلك الوقت، وليس ثَمَّ ليل ولا نهار، وإِنما هو ضوء ونُور. وروى الوليد بن مسلم قال: سألت زهير بن محمد عن قوله تعالى: {بُكْرة وعشيّاً} فقال: ليس في الجنة ليل ولا نهار، هم في نور أبداً، ولهم مقدار الليل والنهار، يعرفون مقدار الليل بارخاء الحُجُب وإِغلاق الأبواب، ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب.
قوله تعالى: {تلك الجنة} الإِشارة إِلى قوله: {فأولئك يدخلون الجنة}.
قوله تعالى: {نُورِث} وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، والشعبي، وقتادة، وابن أبي عبلة: بفتح الواو وتشديد الراء. قال المفسرون: ومعنى {نورث}: نعطي المساكن التي كانت لأهل النار- لو آمنوا للمؤمنين. ويجوز أن يكون معنى {نورث}: نعطي، فيكون كالميراث لهم من جهة أنها تمليك مستأنف.
وقد شرحنا هذا في [الأعراف: 43].
قوله تعالى: {وما نتنزَّل إِلا بأمر ربِّك} وقرأ ابن السميفع، وابن يعمر: {وما يَتنزَّل} بياء مفتوحة.
وفي سبب نزولها ثلاثة أقوال.
أحدها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا»، فنزلت هذه الآية، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثاني: أن الملَك أبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه، فقال: لعلِّي أبطأتُ، قال: «قد فعلتَ»، قال: وما لي لا أفعل، وأنتم لا تتسوَّكون، ولا تقصُّون أظفاركم، ولا تُنَقُّون براجمكم، فنزلت الآية، قاله مجاهد. قال ابن الأنباري: البراجم عند العرب: الفصوص التي في فصول ظهور الأصابع، تبدو إِذا جُمعت، وتغمض إِذا بُسطت. والرواجب: ما بين البراجم، بين كل برجمتين راجبة.
والثالث: أن جبريل احتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله قومه عن قصة أصحاب الكهف، وذي القرنين، والروح، فلم يدر ما يجيبهم، ورجا أن يأتيَه جبريل بجواب، فأبطأ عليه، فشق على رسول الله صلى الله عليه وسلم مشقَّة شديدة، فلما نزل جبريل قال له: «أبطأتَ عليَّ حتى ساء ظني، واشتقتُ إِليك»، فقال جبريل: إِنِّي كنتُ أَشْوَق، ولكنِّي عبدٌ مأمور، إِذا بُعثتُ نزلتُ، وإِذا حُبستُ احتبستُ، فنزلت هذه الآية، قاله عكرمة، وقتادة، والضحاك.
وفي سبب احتباس جبريل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولان:
أحدهما: لامتناع أصحابه من كمال النظافة، كما ذكرنا في حديث مجاهد.
والثاني: لأنهم سألوه عن قصة أصحاب الكهف، فقال: «غداً أُخبركم»، ولم يقل: إِن شاء الله؛ وقد سبق هذا في سورة [الكهف: 24].
وفي مقدار احتباسه عنه خمسة أقوال.
أحدها: خمسة عشر يوماً؛ وقد ذكرناه في الكهف عن ابن عباس.
والثاني: أربعون يوماً، قاله عكرمة، ومقاتل.
والثالث: اثنتا عشرة ليلة، قاله مجاهد.
والرابع: ثلاثة أيام، حكاه مقاتل.
والخامس: خمسة وعشرون يوماً، حكاه الثعلبي. وقيل: إِن سورة الضحى نزلت في هذا السبب. والمفسرون على أن قوله: {وما نتنزل إِلا بأمر ربِّك} قول جبريل. وحكى الماوردي: أنه قول أهل الجنة إِذا دخلوها، فالمعنى: ما ننزل هذه الجنان إِلا بأمر الله. وقيل: ما ننزل موضعاً من الجنة إِلا بأمر الله.
وفي قوله: {ما بين أيدينا وما خلفنا} قولان:
أحدهما: ما بين أيدينا: الآخرة، وما خلفنا: الدنيا، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وقتادة، ومقاتل.
والثاني: ما بين أيدينا: ما مضى من الدنيا، وما خلفنا: من الآخرة، فهو عكس الأول، قاله مجاهد. وقال الأخفش: ما بين أيدينا: قبل أن نُخلَق، وما خلفنا: بعد الفناء.
وفي قوله تعالى: {وما بين ذلك} ثلاثة أقوال.
أحدها: ما بين الدنيا والآخرة، قاله سعيد بن جبير.
والثاني: ما بين النفختين، قاله مجاهد، وعكرمة، وأبو العالية.
والثالث: حين كوَّنَنا، قاله الأخفش. قال ابن الأنباري: وإِنما وحَّد ذلك، والإِشارة إِلى شيئين.
أحدهما: {ما بين أيدينا}.
والثاني: {ما خلفنا}، لأن العرب توقع ذلك على الاثنين والجمع.
قوله تعالى: {وما كان ربك نَسِيّاً} النَّسِيُّ، بمعنى الناسي.
وفي معنى الكلام قولان:
أحدهما: ما كان تاركاً لك منذ أبطأ الوحي عنك، قاله ابن عباس. وقال مقاتل: ما نسيك عند انقطاع الوحي عنك.
والثاني: أنه عالم بما كان ويكون، لا ينسى شيئاً، قاله الزجاج.
قوله تعالى: {فاعبُده} أي: وحّده، لأن عبادته بالشِّرك ليست عبادة، {واصطبر لعبادته} أي: اصبر على توحيده؛ وقيل: على أمره ونهيه.
قوله تعالى: {هل تعلم له سميّاً} روى هارون عن أبي عمرو أنه كان يُدغم {هل تعلم}، ووجهه أن سيبويه يجيز إِدغام اللام في التاء والثاء والدال والزاي والسين والصاد والطاء، لأن آخر مخرج من اللام وقريب من مخارجهن. قال أبو عبيدة: إِذا كان بعد {هل} تاء، ففيه لغتان، بعضهم يُبين لام {هل}، وبعضهم يدغمها.
وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال.
أحدها: مِثْلاً وشبهاً، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة.
والثاني: هل تعلم أحداً يسمّى اللهَ غيرُه، رواه عطاء عن ابن عباس.
والثالث: هل تعلم أحداً يستحق أن يقال له: خالق وقادر، إِلا هو، قاله الزجاج.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7